2011/07/19

"الدراعة".. إشكالية الهوية والاختلاف

إذا كان الفكر الإنساني قد استطرد طوال تاريخه السالف التفكير في الأشياء التي تبدو مهمة، نقصد هنا الوجود، الطبيعة وكذا الحقيقة، فإن هذه المساءلة لم تعد مطروحة حاليا، على اعتبار أن هذه الأشياء حسب مينشل فوكو لا تشكل حقيقة، نقصد هنا سؤال القيمة، نحن لسنا هنا بصدد الخوض، في كل تلك السلوكيات أو الممارسات اليومية، التي غالبا ما لا نعيرها اهتماما كبيرا. سوف نحاول مقاربة، هذه الإشكالية العميقة...


والمركبة بشكل يكشف عمقها الإشكالي. من خلال مقال أو نموذج "الدراعة" باعتبارها تجسد حمولة ثقافية، تقليدية وحتى وجودية....
فما هي قيمة "الدراعة" كشيء في ذاته؟ وما هي علاقة هذه "الدراعة" بمن يرتديها؟ والأهم من ذلك، ما هي علاقة الدراعة ومن يرتديها بالمحيط الذي ينطوي تحت علمه هذا الفرد؟ خاصة إذا ما استحضرنا هنا، أن الدراعة توفر فضاءا معرفيا مستقلا عن هذه الثقافة الصناعية التي تنمط الفرد وتستعبده، حيث تقتل داخله روح التلقائية والعبثية، وتجعله كائنا صناعيا أي مستهلكا، لا يأخذ مساحة نقدية من نفسه وكذا تمظهراته.....
على كل حال، سوف نحاول الانطلاق من محاولة فهم "الدراعة" كفضاء معرفي وكممكن، على اعتبار، أننا نفكر في الدراعة وفق شروط تاريخية مجتمعية، فكرية معينة. ذلك أنها لم تفكر من قبل بهذه الطريقة، لأنها ببساطة لم تكن مقبولة في الزمن الماضي.....
نحن نعول على قراءة واعية متفاعلة، هي محصلة تقديم الإضافة وجدت لتعكس ممكننا وسياقنا التقليدي، وهنا يبرز سؤال آخر لا يقل أهمية، ألا وهو سؤال الأصالة والمعاصرة؟ علاوة على هذا، كيف تساهم الدراعة في إدماج أو إقصاء الغريب، على اعتبار أن الجماعة تستخدم تقاليدها لتنميط "الغريب" كما بينت ذلك جوليا كريستيفا....
أضف إلى ذلك، كينونة هذه العادة، نقصد هنا "الدراعة" كسلوك يومي وكتداول بين أفراد الجماعة الواحدة، ألا يمكننا أن نشكك هنا في مدى تمثيل هذه الدراعة أو أي سلوك يومي لهوية وخصوصية وفردا نية، وبالتالي وجود هذا الفرد، الذي يتطلع إلى إيجاد موقع له في ظل كل هذه التحولات والتغييرات المتسارعة، على كافة الجبهات، سواء كانت ثقافية، فكرية، اقتصادية...إلخ....
بعد أن حاولنا فهم هذه "الدراعة"، سوف ننتقل إلى محاولة أخرى، تخص إمكانية تفسير هذه الدراعة، وهنا لابد أن نقول، أننا لا نسعى إلى أن نكون يسارا في وجه كل يمين، كما أننا لا نريد أن نكون يمينا في وجه كل يسار. لكننا نهدف إلى إيجاد موقع، يمكننا من رؤية الأشياء كما هي، حيث لا توجد ضبابية. لعل أول سؤال، نصطدم به هو سؤال القيمة أي قيمة الدراعة، وهنا لا بأس أن نستدعي الفيلسوف الألماني الشهير فريدريك نيتشه، الذي يقول في كتابه "إرادة القوة" في الشذرة 493: "إن الحقيقة هي ذلك النوع من الخطأ الذي لا يستطيع نوع معين من الكائنات الحية أن يعيش بدونه. إن قيمة الحياة هي الشيء الحاسم في النهاية"....
لعل نيتشه في هذه الشذرة، كشف بكل وضوح عن رفض حقيقة الأشياء في ذاتها واستبدالها بالقيمة. فهل يمكن، أن نتحدث هنا عن قيمة "للدراعة" تجعلها تشكل هروبا أو تخلصا من هذه الثقافة الصناعية ونبذ لقيم المدنية، التي طغت فيها المنفعة على حساب القيمة. فنقطة التوتر هنا، هي ما مدى وجود قيمة حقيقة لهذا الشيء، الذي هو الدراعة: هل هي فقط مظهر يوحد الجماعة ويستبعد الغريب، أم أنها عقيدة لدى الجماعة، وثابت لا يمكن تجاوزه، على اعتبار تمثيله لخصوصية هذا الفرد وبالتالي خصوصية الجماعة. لاشك أن السؤال الثاني، الذي يخص علاقة هذه "الدراعة" بمن يرتديها أكثر صعوبة من سؤالنا الأول. لعل المدخل الملكي، لهذا التساؤل، هو سؤال آخر لا يقل أهمية يتعلق بهوية هذا الفرد أو ذاك الذي يرتدي هذه الدراعة....
فهل هذه الممارسة اليومية، التي أصبحت عادة، هي خطاب يستوعبه الفرد داخليا، أم أنه سؤال يعكس التشتت والتعدد، الذي "يتنافى" مع الهوية، التي تتداول كوحدة، وحال أنها خلاصة، تلك الاختلافات بين أفراد الجماعة الواحدة، ومثال ذلك، هو أن الناس لا يلبسون الدراعة كخطاب بنفس النظرة.....
بصدد هذه العلاقة المركبة أو اللعبة بين الفرد و الدراعة، ألا يمكن أن نتحدث هنا عن دراعة للاختلاف، على اعتبار، أن كثير من الناس الذين يرتدون الدراعة، لا يحملون نفس الأفكار والقناعات. فهذه السلوكيات أو التمثلات اليومية، تعكس رغم أنها "تبدو" مظهرا للوحدة، لكنها داخليا تجسد الاختلاف، بل وحتى التناقض، على اعتبار، أن الجماعة التي ترتدي الدراعة، ليست لها نفس العقلية، تجاه الدراعة، هنا نطرح سؤال آخر، يتعلق بمدى تحليل "الدراعة" كخطاب وكوجود، ألا يمكن اعتبار "الدراعة" استعبادا أو إيديولوجية فرضت على فئة من الناس، بسبب أنهم ولدوا، داخل جماعة تعتقد بالدراعة وتعتبرها جزء لا يتجزأ من وجودها. لكن هذا اليسار، يرى في هذه الدراعة، تنميطا كما يرى البعض الآخر في الثقافة الصناعة تنميطا. نحن هنا في متاهة أو مفارقة، هي الكل والجزء. فالأول يخص الهوية التي تمثل حقيقة هذه الجماعة أو تلك. والثاني يتعلق "بالدراعة كتمثيل" لهوية الهوية....
علاوة على ما سبق قوله، هناك مساءلة أخرى، أكثر عمقا، تخص هذه المرة علاقة الدراعة كتمثل والفرد الذي يرتديها بالمحيط الذي يعيش فيها: هل هي علاقة اتصال أم علاقة انفصال. لكننا بالتالي، سوف نعود إلى لعبة الكل والجزء، أي إلى التنميط عند البعض والهوية عن البعض الآخر. لكن ألا يمكن أن نتساءل أن دور الأحكام المسبقة، التي تعطى لكل من يفعل سلوك معين أو لباس معين. فمن يرتدي الدراعة مثلا، يعكس ثقافة البادية، حيث الكرم والجود والصدق. لكننا نجد أناسا لا علاقة لهم بهذه القيم السالفة الذكر. هذه المساءلة، تجرنا إلى ما مدى حضور المثقف الذي يرتدي الدراعة أو أي زي تقليدي، منه لا يفكر بعقلية العوام. لكنه يكون مرغما على ارتداء هذه الدراعة، حتى يقدم ولاءه وطاعته لهذه الجماعة....
إذا كانت "الدراعة" كخطاب يمثل "هوية" و"خصوصية" هذه الجماعة، التي ينتمي إليها، هذا الفرد، فإن هذه "الهوية"، التي تدعى الجماعة، إنها متطابقة وواضحة فيه نظر ذلك أننا نجد داخل هذه "الوحدة" اختلافات وتباينات لا يمكن تذويبها بأي حال من الأحوال....
ومما لاشك فيه، أننا نحاول "تحليل" أو"كتابة" هذه "الدراعة" بطريقة لم يسبق أن كتبت بها، على اعتبار، اختلاف الشروط التاريخية، الثقافية وحتى السياسية، التي تملي علينا "تحليلا" أي تحليلا يولد من كتابة تجد صدى لها في هذا الموروث الثقافي الغني أو هذا التراث، الذي يجتاح، إلى قراءة جديدة ومتجددة، تكشف، عن كل المكبوتات والأشياء، التي لم تكن موضع سؤال، لأنها ببساطة، كانت تعتبر من "البديهيات" التي لا يجوز نقاشها....
فهذه العادات، التي تمارس يوميا، يمكن أ، نتساءل هنا عن مدى إيمان الفرد، الذي يمارسها. هل هو فقط يقلد "الجماعة" التي تنمطه، أم أنه يمارسها عن قناعة وتشبع. على كل حال، في أي عادة، ولعلنا هنا بصدد "الدراعة"، لا يمكن الحسم في هذا الطرح، على اعتبار، اختلاف وتعدد وتكثر، هذه الرؤى والقناعات، لكن يمكننا، أن نقتسم مع الآخرين قناعاتهم حول هذه "الدراعة"، دون أن نكون مجبرين على الاعتقاد بحقيقة هذه العادة أو تلك. هكذا إذن، تتضح بجلاء، صعوبة القول في هذه العادات اليومية، التي تعلقت بمن يزاولونها حتى أصبحت جزء لا يتجزأ منهم، فهم يرون أنفسهم فيها وفي من يمارسها من جنسهم.....
بعد هذه السيرورة، التي قادتنا إلى مساءلة مهمة تخص عادة من العادات اليومية، التي غالبا ما لا نعيرها أي اهتمام، نقصد هنا "الدراعة"، فقد حاولنا مقاربة، هذه الإشكالية انطلاقا من التساؤل عن قيمة "الدراعة" في ذاتها، وكذا عن علاقتها بمن يرتديها، علاوة على هذا، تساءلنا عن طبيعة العلاقة بين الدراعة وصاحبها من جهة، والمجتمع، المحيط الذي يعيش فيه الفرد من جهة ثانية. وما يمكن التأكيد عليه، هو أن هذه المساءلة تقودنا إلى مساءلة أعمق تخص مفهوم الهوية.....
فهل يمكن اعتبار هذه الهوية "إيديولوجيا"؟ وإن كان ذلك صحيح، فما هو حضور هذه الإيديولوجيا في قناعاتنا وثقافتنا؟ وإلى أي حد يمكن أن نعتبر هذه الهوية تأسيسا لقيمة الاختلاف بين الفرد والثقافة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق