2011/09/07

الطبيخ والعادات الغذائية الشائعة عند مجتمع البيضان

الحلقة الأولى
"يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيِّبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إيَّاهُ تَعبدون"
البقرة، 172.
.
-الطعامُ حاجةٌ بشريةٌ لا محيد عنها، لأنه يشكل مادة رئيسية لتغذية الجسم وتمكينه من العيش والبقاء على قيد الحياة. وفي العُرف الطعام اسم لما يُؤكل والشراب اسم لما يُشرب، وفي رأي بعض المشايخ، ينصرف الطعام إلى ما يمكن أكله، يعني المعتاد للأكل كاللحم المطبوخ والمشوي ونحوه. والطعام وسيلة يُعبِّر بها المضيف عن استعداده لاستقبال الضيوف وإكرامهم ومعاملتهم معاملة حسنة.
وينبع الاهتمام الأنتروبولوجي بالطعام من الاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية التي تُعَدُّ سمة من سمات الدراسات الإثنوغرافية. فالتَّحريمات والوصفات المتَّصلة بالطعام تقدِّم وسيلة مفيدة لدراسة الفروق الثقافية، فبدون الاهتمام بوصف التفاصيل الكاملة للسلوك اليومي، والتي تؤخذ أغلبها على أنها مُسَلَّمَات Postulats، فإن الأفكار والممارسات حول الطعام لم تحتل حتى عهد قريب سوى أهمية طفيفة بالنسبة لعلماء الاجتماع، اللهم إلاَّ في سياق دراسة الفقر والحرمان أو دراسة الزراعة والصناعة...

على مستوى الكتابة حول أنتروبولوجيا الطعام، يجدر بنا الاستشهاد بما تناوله المؤلفون العرب في أمور الطبيخ وذكر أسماء ووصفات الأكلات كإبن النديم الذي أحصى في كتابه "الفهرست" مجموعة كتب أُلِّفَت في الطعام وآدابه والتي بلغت أوجها في العصر العباسي، وهذه الكتب هي: كتاب الكسباج لجحظة (وله أيضاً الطبيخ)، والطبيخ لإبراهيم بن العباس الصولي، والطبيخ لإبراهيم بن المهدي، والطبيخ لأحمد بن الطبيب، والطبيخ للحارث بن بسخز، والطبيخ للطبيب الرازي، والطبيخ لعلي بن يحيى المنجَّم، والطبيخ للمرضى لمخبره..إلخ. زد على ذلك كتب أخرى خاصة بالطعام، منها كتاب "تذكرة الخواتين وأستاذ الطبخ" لخليل سركيس (1885م)، ثم كتاب "فص الخواتيم في ما قيل في الولائم" لمؤلفه شمس الدين بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي، وكتاب "الأمالي" لأبي علي القالي، و"فقه اللغة" للثعالبي الذي ضمَّ بحثاً مفصلاً في أسماء أطعمة العرب، وأيضاً العديد من الرسائل التي أنجزت في الأكل والمؤاكلة، منها ما كتبه الشيخ بدر الدين محمد الغزي (1499م/ 1577م)، وعلى الخصوص رسالته المعنونة بـ"رسالة آداب المؤاكلة" والمحفوظة ضمن مخطوطات دار الكتب الظاهرية في القاهرة.

كما يُمكن الاستشهاد بمقالات حبيب الزيات المنشورة منذ مطلع القرن الماضي، وتحديداً خلال الفترة الممتدة بين عامي 1929 و1952، وذلك بمجلة الشرق الكاثوليكية.. إلى جانب الكتاب الصادر عام 1934 حول الطبخ العربي خلال العصر الوسيط في الموصل وهو لداوود الجلبي وقد تمَّت ترجمته عام 1939 إلى اللغة الإنجليزية.

أضف إلى ذلك الإسهامات المهمة للباحث الفرنسي مكسيم رودنسون التي دشنها عام 1949 ببحث قيِّم تناول فيه المصادر العربية في مجال ثقافة الطعام والذي تم نشره في مجلة الدراسات الإسلامية الفرنسية. وقد فتح هذا البحث المجال لظهور أبحاث أنتروبولوجية أخرى أبرزها أطروحة الباحث الإسباني ف. دولاجراخا (1958/1959) في إطار جامعة كومبليتاتس بمدريد، فضلاً عن كتاب أندلسي لمؤلف مجهول يعود للمرحلة الموحدية، أو أواخر العهد المرابطي من قبل المؤرخ الإسباني ويتشي ميراندو اهتمت مجلة معهد الدراسات الإسلامية الإسبانية بمدريد (1961/ 1962) قبل ترجمته إلى الإسبانية عام 1966.
كما نضيف كتاب "الطعام في الثقافة العربية" لنينا جميل، منشورات رياض الريس للكتب والنشر/ الطبعة الأولى، عام 1994، ثم: كتاب "الطعام والشراب في التُّراث العربي" الصادر ضمن منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة (2008)، وهو لسهام الدّبابي الميساوي، وأيضاً كتاب الطعام والمجتمع في العصر الكلاسيكي القديم" لمؤلفه بيتر غرانسي، وهذا الكتاب تمت ترجمته إلى اللغة العربية وقد صدر ضمن مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتُّراث، فضلاً عن كتاب "قرب ألف مائدة: تاريخ الطعام" لصاحبه فيليب أرمستو، مع الإشارة كذلك إلى العدد السادس عشر من مجلة أمل الصادر عام 1999 بالدار البيضاء، وقد تضمَّن ملفاً حول "الأطعمة والأشربة في تاريخ المغاربة"..
1- في ثقافة الطعام
يَلْعَبُ الطعامُ في عُرْفِ وثقافة الصحراويين دوراً رئيسياً في نسج وتطوير العلاقات الاجتماعية، يظهر ذلك جلياً من خلال الولائم (لْعَرْظَاتْ) التي تقام أساساً بمناسبة العديد من الاحتفاليات الاجتماعية والدينية وغيرها. فهو مادة مغذية للجسم ومساعدة على النمو. كما أنه مظهرٌ من مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية وجزءٌ من ذاكرة الصحراويين التي تَحْبُلُ بموروث كبير من الأطعمة والأشربة التقليدية المأخوذة من البيئة المحلية، كلحوم الطرائد (الصيد البري) والمنتجات البرية والبحرية المتنوِّعة.

وحال الصحراويين في ذلك مثل حال قبائل البدو الرُّحل الأمازيغ والعرب الذين اعتادوا على تربية الماشية كمصدر أساسي لعيشهم، يجوبون القِفار وإيلاف الرحلتين، بحثاً عن الماء والكلإ كقبائل صنهاجة ولمتونة ظواعن رحالة في الصحراء مراحلهم فيه مسيرة شهرين في شهرين ما بين بلاد السودان وبلاد الإسلام.. وليس يعرفون حرثاً ولا زرعاً ولا خبزاً، إنما أموالهم الأنعام وعيشهم من اللحم واللبن. طريقتهم في ذلك، أنهم يقومون بتشريح اللحم وتجفيفه وبعد طحنه وطبخه يصبُّون عليه الشحم والمذاب أو السمن، ثم يأكلونه ويشربون عليه لبن الحليب. وكان هذا حالهم زمن الوزَّان الذي لاحظ أنهم يأكلون في المساء لحم القديد المطبوخ في اللبن والمدهون بالسمن2.
تتَّصل التغذية عند ابن خلدون بنمط العيش وما ينجم عن تفاعل الإنسان مع بيئته من تعوَّد على نوع وأنواع من الغذاء. يقول: "وأصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية وائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة، فمن عوَّد نفسه غذاءاً ولاَءَمَهُ كان له مألوفاً، وصار الخروج عنه والتبدُّل به داءً ما لم يخرج عن غرض الغذاء كالسموم واليتوع. فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللبن والبقل عوضاً عن الحنطة والحبوب من غير شك، وكذا من عوَّد نفسه على الجوع والاستغناء عن الطعام". واستنتج ابن خلدون أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية، وأنه يؤثر في نقاء الأبدان مما يشوبها من الزيادات المخلَّة بالجسم والعقل. كما ميَّز بين تغذية البدو والحضر المنغمسين في الخصب المتعوِّدين للإدم والسمن مبرزاً أثر ذلك على كل منهما3.
اهتم الصحراويون كثيراً بثقافة المطبخ وصنعوا العديد من الأكلات والوجبات (اظْوَاگْ) التي تلاءمت مع ظروف ونمط عيشهم البدوي ومناخات الحياة بالبوادي والأرياف الخاضعة لسلطة الطبيعة ولحجم الموجودات، اعتماداً على العلاقة بالبيئة والفهم الجيِّد لخصوصياتها والقدرة على استغلال خاماتها وجني ثمارها. وتتشكَّل أطعمة المجتمع الحسَّاني عموماً من أغذية نباتية وأخرى حيوانية ماشية (أهلية أليفة وبرية متوحشة) وطائرة (أو مجنَّحة) وسابحة. ومن أطعمتهم اليَدْمَة، وهي إدام الطعام، وغَطْسُ الأكل لقمته في محل الإدام، كما في كلامهم الشعبي: "اتَّغْطَاسْ فَ بَلْ اليَدْمَ".

بالقاء نظرة وجيزة حول حياة الإنسان الصحراوي (زمن البداوة)، سنلحظ بأن له طبيخ ووجبات رئيسية خاصة تمثل برنامجه الغذائي شبه اليومي، وهي وجبات يشكِّل فيها الخبز ولحم ولبن الإبل والماعز والشعير والشاي المواد الاستهلاكية الأساسية له.
الخبز: أحِنُّ إلى رغيف أمي..
الخبز، هو من دون منازع مادة رئيسية يستهلكها المجتمع الصحراوي على نحو كبير، لاسيما النوع الأبيض المسمَّى دقيق الدرمك Froment الصافي والخالص، أضف إلى ذلك خبز الشعير ويليه خبز الذرة. ولوفرة الشعير بالصحراء، يخصَّصُ جزءٌ منه لعلف الماشية. والخبز مادة هيدركربونية هامة وغذاء ممتاز يتكوَّن من طحين القمح، أو الذرة، أو الشعير والماء والملح والخميرة غالباً، لاسيما إذا كان مستحراً من القمح الجيِّد أو مخبُوزاً بطرق صحية سليمة، وتتجلَّى قيمته الغذائية في كون كل مئة غرام منه تعطي 279 كالوري تقريباً.
عن الخبز قال الرسول (ص): "أكرموا الخبز، فإن الله تعالى أنزله من بركات السماء، ولا يسمح بمسح اليَدِ بالخبز". يقال للخبز: ابن حبَّة، وفي هذا قال الشاعر:
في حَبَّةِ القلبِ منّي زَرَعْتُ حُبَّ ابنِ حَبَّة
الخبز، هذا الطعام الذي يطبخ في علاقة مباشرة مع النار أو الرماد أو الحجارة المحمَّاة دون أن تمسَّه النار وتحرقه. فيُلامسه الهواء يجفِّفه ويضاف إليه الماء ليعجن فيبعد في طبخه عن المشوي ويقترب من المطبوخ، وقد تساهم رطوبة الماء في فساده إذا لم يطبخ إو إذا طبخ طبخاً يسيراً. كما قد يوضع فيه الخمير (عفن) فيخمِّره ويساهم في تجفيفه، فيعبِّر الخبز عن الطبخ ويرمز إلى هذا الفن4. ومن أشهر أنواع الخبز بالصحراء "خَبْزَتْ لَفْطِيرْ" التي تُحَضَّرُ بدون خميرة وتُرْدَمُ داخل الرمل الساخن، و"خَبْزَتْ لْحَفْرَة" التي تُوضع بداخل حفرة فحمٍ مشتعلٍ وتكون مغطاة.
اللبن: إكسير الحياة في الصحراء
يلي الخبز اللبن، وهو خلاصة الأب -بشدِّ الباء- أي قوت الأنعام المتناول من لدن لبونة. هو حصيلة ما اقتاتت به ويعطي قوة للمغتذي به ويُنزع من الضرع نزعاً بالحلب. اللبن بعد استخلاصه من لبونة بالحلب يُدعى بالأسماء التالية: حَلوب، حلب (بالتحريك)، رِسل، نشيل، شخاب، عند اختلاب لبون ترى شخوب اللبن مندفعة من الضرع بقوة وبصوت هو الشخف أو الشبخ.
كل الشخوب تقع في المحلب إن كان الحلاب أو الحلابة من الهشم الحاذقين، وإلاَّ فإن اللبون تغلبه لاضطرابها. وفي هذه الحالة (شخب في الإناء وشخب في الأرض)، كما يقول المثل العربي. اللبن بعد احتلابه هو لبن حليب وهو خلاف اللبن الحقين، أي المخزون في وعاء ليختمر ويروب روباً وهو الصالح للمخض ولاستخراج زبد5.
وما رَوَى عطش العرب بجانب الماء كان الألبان من النُّوق والنعاج والأغنام والأبقار. وأعدوا من اللَّبن الرثيئة، وهي اللَّبن الحامض يحلب عليه الحليب وقيل عنه هو أطيب اللَّبن. وقالت العرب: "إن الرثيئة تفتأ الغضب". وأصل القول أن رجلاً نزل بقوم وكان ساخطاً عليهم وكان مع سخطه جائعاً فسقوه الرثيئة فسكن غضبه. والرثيئة شبيهة بشراب اللَّبن الرَّائب الذي يخلط اليوم مع الماء ويُسمَّى بالشنين6. جاء في اللسان8: إن الرثيئة هي اللَّبن الحليب يُصَبُّ عليه اللَّبن فيتخثر الحامض فيروب من ساعته.
يلعب اللَّبن دوراً رئيسياً في تغذية بدو الصحراء. فشرابهم اللبن قد غنوا به عن الماء، يبقى الرجل منهم الأشهر لا يشرب الماء7 ما دام عندهم لبن النُّوق فلا حاجة لهم بالماء خصوصاً في فصل الربيع، حيث تعوَّدوا أن يشربوا في الصباح ملء إناء كبير "تَازُوَّة" من اللبن الساخن فور ما يحلب "وقْتْ لْعَتْمَ"9. فاللاَّبنون من البدو الصحراويين إذا أخصبوا لا يختارون غير اللبن قوتاً ولا يفضلون عليه تمراً ولا حَبّاً ولا يوقدون ناراً ولا يختبزون10. يقول الشاعر الحسَّاني:

عْلَ لْبَنْ لْبَلْ كَنْتْ طَابْ وَعْـلَ مْرَيُومَ نَـوْمَ
وَالدَّنْيَ قاعْ ألاَّ شْرَابْ لْبَـنْ لْبَـلْ وَ مْرَيُومَ
ما يبرز أهمية اللبن كغذاء ما جاء في التنزيل العزيز والحديث. قال تعالى: "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لَبَناً خالصاً سابغاً للشاربين"11. وعن ابن عمر قال الرسول (ص): "ثلاثة لا تُرَدُّ: اللبن والسواك والدهن". وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أُتيَ رسول الله (ص) بلبن فشرب فقال: "إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه، وإذا سُقي لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزِدنا منه، فإنه ليس يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن". رواه أحمد في مسنده وابن ماجة والترمذي وحسَّنه أبو داود.
ثم هناك لحم الإبل وعلى الخصوص لحم الجمل، طبيعته بارد يابس غليظ كثيف الغذاء يقوي الباءة وأجوده لحم الذي لم يتعد السنتين، وأكله أنفع لأصحاب الكَدِّ والتعب، وأكل دماغه يضعف العقل ورئته تضعف البصر. ومن منافعه العلاجية أن بَوْلَهُ أنفع شيء للزكام والسعال والكبد والطحال والاستسقاء شمّاً وشرباً12. يضاف إلى ذلك أغذية وأطعمة كثيرة ومتعدِّدة، كلحوم الماعز والغنم والتمر والزبدة والعسل..إلخ.

هناك تعليق واحد: